فصل: تفسير الآيات (8- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآيات (5- 7):

{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} يعني: أولى المرتين.
قال قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا المحارم.
وقال ابن إسحاق: إفسادهم في المرة الأولى قتل شعياء بين الشجرة وارتكابهم المعاصي.
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا} قال قتادة: يعني جالوت الخزري وجنوده وهو الذي قتله داود.
وقال سعيد بن جبير: يعني سنجاريب من أهل نينوى.
وقال ابن إسحاق: بختنصر البابلي وأصحابه. وهو الأظهر.
{أُولِي بَأْسٍ} ذوي بطش، {شَدِيدٍ} في الحرب، {فَجَاسُوا} أي فطافوا وداروا {خِلالَ الدِّيَارِ} وسطها يطلبونكم ويقتلونكم والجوس طلب الشيء بالاستقصاء. قال الفراء: جاسوا قتلوكم بين بيوتكم.
{وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا} قضاء كائنا لا خلف فيه. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ} يعني: الرجعة والدولة، {عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} عددا، أي: من ينفر معهم وعاد البلد أحسن مما كان. {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ} أي: لها ثوابها، {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أي: فعليها كقوله تعالى: {فسلام لك} [الواقعة- 91] أي: عليك وقيل: فلها الجزاء والعقاب.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ} أي: المرة الأخيرة من إفسادكم، وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام، فسلط الله عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم، فذلك قوله تعالى: {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} أي: تحزن وجوهكم وسوء الوجه بإدخال الغم والحزن.
قرأ الكسائي ويعقوب. {لنسوء} بالنون وفتح الهمزة على التعظيم كقوله: {وقضينا} و{بعثنا} وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر بالياء وفتح الهمزة على التوحيد أي: ليسوء الله وجوهكم وقيل: ليسوء الوعد وجوهكم.
وقرأ الباقون بالياء وضم الهمزة على الجمع أي ليسوء العباد أولوا البأس الشديد وجوهكم. {وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ} يعني: بيت المقدس ونواحيه {كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا} وليهلكوا {مَا عَلَوْا} أي: ما غلبوا عليه من بلادكم {تَتْبِيرًا}.

.تفسير الآيات (8- 10):

{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)}
{عَسَى رَبُّكُمْ} يا بني إسرائيل {أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} أي: إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة. قال قتادة: فعادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس.
قال الحسن: حصيرا أي: فراشا. وذهب إلى الحصير الذي يبسط ويفرش. {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} أي: إلى الطريقة التي هي أصوب. وقيل: الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله، {وَيُبَشِّرُ} يعني: القرآن {الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ} بأن لهم {أَجْرًا كَبِيرًا} وهو الجنة. {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهو النار.

.تفسير الآيات (11- 12):

{وَيَدْعُ الإنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا (12)}
وقوله تعالى: {وَيَدْعُ الإنْسَانُ} حذف الواو لفظا لاستقبال اللام الساكنة كقوله: {سندع الزبانية} [العلق- 18]، وحذف في الخط أيضا وهي غير محذوفة في المعنى. ومعناه: ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه، {بِالشَّرِّ} فيقول عند الغضب: اللهم العنه وأهلكه ونحوهما، {دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ} أي: كدعائه ربه بالخير أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ولكن الله لا يستجيب بفضله {وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا} بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه. قال جماعة من أهل التفسير وقال ابن عباس: ضجرا لا صبر له على السراء والضراء. قوله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} أي: علامتين دالتين على وجودنا ووحدانيتنا وقدرتنا {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعلها مع نور الشمس.
وحكى أن الله تعالى أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور.
وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر؟ قال: هو أثر المحو.
{وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} منيرة مضيئة يعني يبصر بها. قال الكسائي: تقول العرب أبصر النهار إذا أضاء بحيث يبصر بها {لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أي: لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر ولم يدر وقت الحج ولا وقت حلول الآجال ولا وقت السكون والراحة. {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا}.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا (15)}
قوله عز وجل: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قال ابن عباس: عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان.
وقال الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به.
وقال الحسن: يمنه وشؤمه.
وعن مجاهد: ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي طائرا على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها. وقال أبو عبيدة والقتيبي: أراد بالطائر حظه من الخير والشر من قولهم: طار سهم فلان بكذا وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين فجرى كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق.
{وَنُخْرِجُ لَهُ} يقول الله تعالى: ونحن نخرج {يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا} وقرأ الحسن ومجاهد ويعقوب: {ويخرج له} بفتح الياء وضم الراء معناه: ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا. وقرأ أبو جعفر {يخرج} بالياء وضمها وفتح الراء.
{يَلْقَاهُ} قرأ ابن عامر وأبو جعفر {يلقاه} بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف يعني: يلقى الإنسان ذلك الكتاب أي: يؤتاه وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي يراه {مَنْشُورًا} وفي الآثار: إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة. {اقْرَأْ كِتَابَكَ} أي: يقال له: اقرأ كتابك قوله تعالى: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} محاسبا. قال الحسن: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. قال قتادة: سيقرأ يومئذ من لم يكن قارئا في الدنيا. {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} لها ثوابه {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لأن عليها عقابه.
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل حاملة حمل أخرى من الآثام أي: لا يؤخذ أحد بذنب أحد. {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} إقامة للحجة وقطعا للعذر، وفيه دليل على أن ما وجب وجب بالسمع لا بالعقل.

.تفسير الآية رقم (16):

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قرأ مجاهد: {أمرنا} بالتشديد أي: سلطنا شرارها فعصوا وقرأ الحسن وقتادة ويعقوب {آمرنا} بالمد أي: أكثرنا.
وقرأ الباقون مقصورا مخففا أي: أمرناهم بالطاعة فعصوا ويحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ويحتمل أن تكون بمعنى أكثرنا يقال: أمرهم الله أي كثرهم الله. وفي الحديث: «خير المال مهرة مأمورة» أي كثيرة النسل. ويقال: منه أمر القوم يأمرون أمرا إذا كثروا وليس من الأمر بمعنى الفعل فإن الله لا يأمر بالفحشاء.
واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال: لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والإمارة والكثرة.
{مُتْرَفِيهَا} منعميها وأغنياءها {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وجب عليها العذاب {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} أي: خربناها وأهلكنا من فيها.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا يحيى بن بكر حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير أن زينب بنت أبي سلمة حدثته عن أم حبيبة بنت أبي سفيان عن زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا وهو يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها» قالت زينب فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم إذا كثر الخبث».

.تفسير الآيات (17- 20):

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}
قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ} أي: المكذبة {مِنْ بَعْدِ نُوحٍ} يخوف كفار مكة {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن مائة وعشرون سنة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن وكان في آخره يزيد بن معاوية.
وقيل: مائة سنة. وروي عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسر المازني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» قال محمد بن القاسم فما زلنا نعد له حتى تم له مائة سنة ثم مات.
قال الكلبي: ثمانون سنة. وقيل: أربعون سنة. {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ} يعني الدنيا أي: الدار العاجلة، {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} من البسط والتقتير {لِمَنْ نُرِيدُ} أن نفعل به ذلك أو إهلاكه {ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ} في الآخرة {جَهَنَّمَ يَصْلاهَا} يدخل نارها {مَذْمُومًا مَدْحُورًا} مطرودا مبعدا. {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} عمل عملها، {وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} مقبولا. {كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ} أي: نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة، {مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} أي: يرزقهما جميعا ثم يختلف بهما الحال في المآل {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ} رزق ربك {مَحْظُورًا} ممنوعا عن عباده فالمراد من العطاء: العطاء في الدنيا وإلا فلا حظ للكفار في الآخرة.

.تفسير الآيات (21- 23):

{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا (23)}
{انْظُرْ} يا محمد {كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} في الرزق والعمل الصالح يعني: طالب العاجلة وطالب الآخرة، {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره.
وقيل: معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر {فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولا} مذموما من غير حمد مخذولا من غير نصر. قوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ} وأمر ربك قاله ابن عباس وقتادة والحسن.
قال الربيع بن أنس: وأوجب ربك.
قال مجاهد: وأوصى ربك.
وحكي عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأ ووصى ربك. وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا.
{أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} أي: وأمر بالوالدين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما.
{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ} قرأ حمزة والكسائي بالألف على التثنية فعلى هذا قوله: {أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} كلام مستأنف كقوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم} [المائدة- 71] وقوله: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} [الأنبياء- 3] وقوله: {الذين ظلموا} ابتداء وقرأ الباقون {يبلغن} على التوحيد.
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فيه ثلاث لغات قرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: بفتح الفاء وقرأ أبو جعفر ونافع وحفص بالكسر والتنوين والباقون بكسر الفاء غير منون ومعناها واحد وهي كلمة كراهية.
قال أبو عبيدة: أصل التف والأف الوسخ على الأصابع إذا فتلتها.
وقيل: الأف: ما يكون في المغابن من الوسخ والتف: ما يكون في الأصابع.
وقيل: الأف: وسخ الأذن والتف وسخ الأظافر.
وقيل: الأف: وسخ الظفر والتف: ما رفعته بيدك من الأرض من شيء حقير.
{وَلا تَنْهَرْهُمَا} ولا تزجرهما.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} حسنا جميلا لينا قال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ.
وقال مجاهد: لا تسميهما ولا تكنهما وقل: يا أبتاه يا أماه.
وقال مجاهد في هذه الآية أيضا: إذا بلغا عندك من الكبر ما يبولان فلا تتقذرهما ولا تقل لهما أف حين تميط عنهما الخلاء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا.